روضة الصائم

الأحكام بين الحلية والتحريم

24 مايو 2019
24 مايو 2019

د. مريم بنت سعيد العزرية - باحثة شؤون إسلامية -

لقد اقتضت حكمة الله تعالى إنزال الشرائع كلها لإقامة مصالح الدنيا والآخرة ودفع مضارهما، غير أن مصالح الدنيا كثيرة ومتشعبة قد تتعارض فيما بينها وتتنازع في ما هو أولى، ولما كان الفقه الإسلامي واقعيا في أحكامه وهو ينظم حياة الناس، ويجاري الواقع ويساير المتغيرات بما يملكه من مرجعية دائمة بدوام الحياة قرر الفقهاء أصولا ثابتة في الفصل بين الأحكام والموازنة بينها، ومن تلك القواعد الضابطة بين الحلال والحرام أن (الأصل في المنافع الحل وفي المضار التحريم)، أي أن كل منفعة ومصلحة للعباد حكمها الأصلي الإذن والإباحة، وأن كل مضرة ومفسدة حكمها ابتداء المنع والتحريم، ويشهد لهذا الأصل قوله تعالى: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ﴾[الأعراف:157].

ويسهم هذا الأصل في استيعاب الشريعة للوقائع المتجددة؛ إذ إنه وسيلة تفتح المجال أمام المجتهدين لإصدار أحكام في الوقائع والوسائل التي لا يجدون لها حكما مستندا على دليل شرعي، فيجعل لهم مخرجا بالتمسك بحكمها السابق أو أصلها العام الذي تندرج تحته.

فالشق الأول من هذه القاعدة هو أن (الأصل في المنافع الحِلّ) يقصد به أن الأصل في الأشياء النافعة الإباحة والإذن إلا ما دل دليل على منعه، وذلك كونها شرعت لتحقيق مصالح الناس، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ﴾[المائدة:4] ، ﴿ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ ﴾[المائدة:5]، ولذلك قرر العلماء القاعدة (الأصل في الأشياء الحلّ أو الإباحة)، وقرروا بناء عليه دليل الاستصحاب، وهو إبقاء ما كان على أصوله التي كان عليها من وجود أو عدم أو نحو ذلك، ما لم يرد دليل ينقله عن حكم أصله إلى حكم آخر. وما يتفرع منه من قواعد، كاستصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب الحكم الأصلي للأشياء، والأصل في الأشياء الإباحة.

وأما الشق الثاني من هذه القاعدة هو أن (الأصل في المضار التحريم) يقصد به أن الأصل في الأشياء الضارة المنع والتحريم إلا ما دل دليل على إباحته؛ فإن الله سبحانه وتعالى حرم كل خبث ونجس على بني آدم لما فيه من الأضرار الواقعة والمتوقعة، كتحريم الخمر في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٩٠﴾[المائدة:90]. فقد حرم الله تعالى الخمر؛ لكونها تذهب بالعقل، وتفضي به إلى القتل والزنا وسائر أنواع الموبقات، وكونها تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم ليكون قادرا على تحمل تكاليف الحياة ومسؤولياته. ونهى كذلك عن الميسر والقمار لأنها مما يقطع علائق التراحم والمواساة في المجتمع المسلم، ويؤدي إلى خراب النفوس وانهيار الأخلاق، ويرسخ الأخلاق المادية في المجتمعات البشرية، مما يهدم مقصد وحدة الأمة والعدالة بين الناس. ونهى الله تعالى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والسخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والتناجي بالإثم والعدوان، ومثلها في السنة النبوية نهى  عن التحاسد والتباغض والتدابر، والهجر فوق ثلاثة أيام، وخطبة الرجل على خطبة أخيه، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها، وسؤال المرأة طلاق أختها، وجملة أنواع الظلم بكل أنواعه ومستوياته؛ كونها تؤدي إلى مضار ومفاسد كثيرة تتمثل في الفرقة والعداوة والاختلاف، وهذا ينافي مقصد الإسلام وأصله الأعظم في الدعوة إلى الوحدة والائتلاف.

ونهى النبي  كذلك في المعاملات المالية عن الغش والتدليس والتناجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، وسوم الرجل على سوم أخيه، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، ونحوها من البيوع المحرمة؛ لأن كل ذلك فيه ضرر ومفاسد كبيرة من إيغار الصدور وإثارة العداوة والبغضاء، وزرع الفرقة وتأجيج الخلاف، وفتح باب التلاعب في الأسواق والتضيق على المسلمين في أسواقهم؛ فحرم ذلك دفعا لتلك الأضرار وحفظا للحقوق ورفعا للضرر والغبن، وحرصا على تقديم مصلحة الجماعة على الفرد، ودعوة لوحدة الأمة واجتماعها وتعزيزها وتقويتها.

ونهي النبي  عن خلوة الرجل بالمرأة في قوله : «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» (رواه البخاري ومسلم). ونهيه عن سفر المرأة دون محرم في قوله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم» (رواه البخاري ومسلم). حيث إن جميع تلك الأفعال فيها مضار باطنة فهي وسائل مفضية إلى الزنا وانتشار الرذيلة وشيوعها في المجتمع، وهذا محرم شرعا، ويضاد مقصد الشرع الحكيم من حفظ الأعراض والنسب، رغم أن بعضها في أصله مباح كالسفر، ويحقق للمرأة مصالح ومنافع، وقد يكون في طاعة؛ ولكنه حرم للمرأة السفر وحدها بدون محرم؛ دفعا للمفاسد المترتبة عنه وسدا لذرائعها في تعريض الأعراض للانتهاك.

ومن أمثلة المضار والمفاسد الباطنة المؤثرة في الأحكام أنه  كان يكفّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ظاهرة للمسلمين بتطهير صفهم من عناصر الإفساد والتخذيل، وهو لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنهم، وهز الثقة بهم، وزرع قالة السوء عنهم، بحيث ينتشر في الناس أن محمداً  يقتل أصحابه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.

وهكذا تمضي النصوص الشرعية مقررة مبدأ (حلية المنافع وحرمة المضار) وما تزال قاعدة فاعلة في المستجدات المعاصرة، ويقوم الترجيح بين المنافع والمضار عند تعارضهما لا حسب خفائهما وظهورهما بل بقوة الأثر في الواقع والمآل، ولذا فإن القاعدة الشرعية نصت على أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).